روائع من صبر الانبياء
صفحة 1 من اصل 1
روائع من صبر الانبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.
عبادَ الله، سنّةُ الله ماضية في الابتلاءِ والامتحان، والحقُّ والباطل في هذه الحياة في صراع مرير مستمِرّ، " لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ " [الأنفال: 42]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ" [العنكبوت: 2]. وليس أحدٌ معصومًا من البلاء، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الصالحون الأمثل فالأمثل.
ولهذا البلاءِ حِكمٌ من الله - جل وعلا -، فمنها تمييزُ الخبيث من الطيب، " لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ " [الأنفال: 37]، فيظهر صدقُ الصادِق من كذب الكاذب. ومن فوائدِ البلاء رفعُ درجات العبد، " وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ " [التوبة: 120]. ومنها تكفيرُ الخطايا والسيئات، ((ما يصيب العبدَ من همٍّ ولا نصَب ولا وصب، حتى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه))[1].
وموقفُ المؤمن مِن البلاء الصبرُ والاسترجاع، " وَبَشّرِ الصَّـابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ راجِعونَ " [البقرة: 155، 156]، رضًا بقضاء الله، فلا تسخُّطَ ولا كراهية، في الحديث: ((ليس منَّا من ضرب الخدودَ وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))[2].
أيّها المسلم، وممّا يعينك على الصبر عندَ الامتحان والابتلاء مواقفُ أنبياءِ الله وخيرتِه من خلقه، فقد قصَّ الله علينا أنباءَ الماضين للاعتبار والاتِّعاظ: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى الألْبَـابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْء " [يوسف: 111]، " وَكُـلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " [هود: 120].
لقد قصَّ الله علينا قصصَ أنبيائه المرسلين، وماذا واجهوا في دعوتهم، وماذا قِيل لهم، وما هو البلاء الذي حلَّ بهم، ثمّ ما هو صبرُهم وتحمُّلهم، كلُّ ذلك في سبيل الله والعاقبة للتقوى.
نوحٌ - عليه السلام - أوّلُ رسُل الله إلى الخلق، ماذا جرى له ؟ مكَث في قومه ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سِرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارا، لينقذهم من الضلال، ويصعد بهم إلى طريق الهدى، والله يقول: " وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ " [هود: 40]. سخِروا منه، وسخِروا من أتباعه، وقالوا له: " لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ " [الشعراء: 116]. أنجى الله نوحًا وأتباعَه، وأغرق قومَه. ابتُلي بكفر ابنه وصدودِه عن أبيه، والله يقول له: " إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ " [هود: 46].
إبراهيمُ أبو الأنبياء بعده، بعثه الله لأبيه وقومه، يدعوهم إلى الله، ويبيِّن لهم توحيدَ الله، ويحذِّرهم من عبادة الأصنام، ويبيِّن لهم فسادَ معتقدِهم وباطلَ ما هم عليه، فما كان من أبيه وقومه إلاّ التكذيبُ والإنكار، لقد تلطَّف مع أبيه في دعوته: " يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَـانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا " [مريم: 42-45]، وماذا قال أبوه؟ " لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا " [مريم: 46]. لقد أقام الحججَ والبراهين العقلية على فسادِ عبادةِ الأصنام وضلالها، وعدم قدرتها على تخليص نفسها، فكيف تُتَّخذ أربابًا وآلهة؟! أوقَدوا نارًا ليحرقوه، فقال الله لها: " كُونِي بَرْدًا وَسَلَـامَا عَلَى إِبْراهِيمَ " [الأنبياء: 69]. وهَبَ الله له في الكبَر إسماعيلَ وإسحاق، فلما ترعرع إسماعيل وتعلَّقت نفس الأب به أمره الله بذبحه ليبتليَ إيمانه وصدقه: " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يا بُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " [الصافات: 102-107]، كلُّ ذلك ليظهرَ إيمان الخليل، ولذا اتخذه الله خليلاً، " وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً " [النساء: 125].
يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاق، نبيٌّ من أنبياء الله، ابتُلي بما ابتُلي به، ابتُلي بصدودِ إخوته عنه، ومحاولتهم إلحاقَ الأذى به، وأُلقي في البئر، فاشتُري وبيع، وصار عند عزيز مصر رقيقًا وهو الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بن الكريم، فابتُلي بامرأة العزيز، كما ابتُلي بإخوته، ولكن الصبرُ والثبات على الحقّ حال بينه وبين ما أُريد، "كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" [يوسف: 24].
وأيوبُ يقول الله عنه: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىا رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَـابِدِينَ " [الأنبياء: 83، 84].
التقم الحوتُ يونسَ - عليه السلام -، فصار في بطنِ الحوت ينادي ويناجي: " أَن لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ " [الأنبياء: 87]، قال الله: " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمّ " [الأنبياء: 88]، "فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " [الصافات: 143، 144].
سيِّدُ الأوّلين والآخرين، سيّد ولد آدم، أفضلُ خلق الله على الإطلاق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، خاتم أنبياء الله ورسله، بعثه الله على حين فَترةٍ من الرسل واندراس من العلم إلى قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله، وما طرق أسماعَهم نذيرٌ قبلَه، إلى قومٍ غارقين في وثنيَّتهم، غارقين في جهالاتهم وضلالاتهم، بدأهم بدعوةِ إيّاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، ليقولوها ويعمَلوا بمقتضاها، ويدَعوا تلك المعبوداتِ الباطلة، فما كان من قومه إلاّ أن وقفوا موقفَ العداء منه، فوصفوه بما هو بَراء منه، وما يعلمون في كنانة أنفسِهم براءته منه، قالوا عنه: الكذّاب والسّاحر والمجنون والشاعر والمفتري، وكلُّ ذاك باطل والله يقول: " فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـاكِنَّ الظَّـالِمِينَ بِـئَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ " [الأنعام: 33].
احمد- التميز البرونزي
- عدد المساهمات : 142
تاريخ التسجيل : 19/05/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى